تمثل النساء الآن غالبية خريجي الجامعات (54%) في كثير من البلدان النامية. وهنّ الأكثرية ممن يحصلن على الشهادات العليا (الماجستير والدكتوراه). وتظهر الأبحاث تفوق البنات في المواد والموضوعات على كل مستوى أكاديمي تقريباً.
ونظراً إلى تفوق النساء تعليمياً، وانضمامهن إلى مؤسسات عدة، يبدو من المنطق السليم أن عدم استغلال الإمكانات الكاملة للمرأة في وقت تعاني فيه الأعمال من نقص المواهب، إنما يؤدي إلى زيادة الخسائر، أو تقليل نسب الأرباح والنجاح.
في بحث أجرته مؤسسة "كاتاليست الاستشارية الأمريكية"، تفحصت فيه الرابطة الجامعة بين القائدات من النساء وأداء شركات لائحة "مجلة فورتشن" الخمسمئة، وجدت أن مجموعة الشركات التي يرتفع فيها معدل تمثيل النساء في فرق إدارتها العليا تفوقت في الأداء على تلك التي انخفض فيها معدل تمثيل النساء.
تبع هذا البحث، بحث آخر أجرته المؤسسة عام 2007، تناول مجالس إدارات الشركات (الخمس مئة)، فوجد أن الشركات التي تضم أعلى نسبة من المديرات كانت أكثر ربحية وكفاءة في المعدل الوسطي من تلك التي ضمت أقل نسبة منهن.
إن وصول النساء الجماعي إلى عالم العمل في القرن الـ 20 على شكل ثورة اقتصادية أفرز تبعات ضخمة ونتائج هائلة. في البلدان المتقدمة: تؤدي النساء دوراً محورياً في حلول سوق العمل للتحديات الناجمة عن شيخوخة القوى العاملة، وانخفاض معدلات الولادة، ونقص المهارات. في البلدان النامية، يعد إسهام النساء الاقتصادي على نحو متزايد مفتاح التنمية المستدامة.
والمرأة "مؤهلة أكثر من الرجل العادي لأنها لا تحب الغش أو الخداع، وهي أكثر اهتماماً بالنتائج البعيدة المدى، وإذا سُمح لها بتطوير قدراتها بصورة تدريجية وتلقت التشجيع، فسوف تحقق أفضل النتائج في أغلب الأحوال".
لم يحدث من قبل مثل هذا الإجماع الدولي على الأهمية الاقتصادية للمرأة وعلى الحاجة إلى تمكينها لتحقيق إمكانياتها كاملة.
فقد أصدر "المنتدى الاقتصادي العالمي"، تقرير فجوة الجندر العالمية سنة 2005، الذي رتب 125 بلداً وفقاً لدرجاته التي يسجلها في تعليم المرأة وصحتها ومشاركتها في الاقتصاد والعملية السياسية. أما منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فقد أعلنت أن "المساواة الجندرية تقوي التنمية الاقتصادية على المدى الطويل". وفي عام 2007، أنشأت موقعاً للجندر على الويب للتركيز على "مضامين حالات عدم المساواة" فيما يخصّ التنمية الاقتصادية، وما الذي يمكن عمله لتطوير سياسات التكافؤ والتساوي. وفي السياق ذاته، أطلق المصرف الدولي خطة العمل الجندرية.
وإن كنا نتحفظ على استخدام "المساواة الجندرية"، ففي هذا إجحاف للمرأة أولاً، وإنما علينا إستخدام عبارة "العدل بين المرأة والرجل"، فكل منهما، وإن نزل إلى سوق العمل، يتمتع بخصائص تتوافق وطبيعته البيولوجية. فكيف ننادي بالمساواة ونحن أمام دماغين مختلفين تماماً في تركيبة كل منهما.
إلا أن بواعث اقتصادية دفعت الشركات إلى وضع قضية الجندر على قمة سلم أولوياتها. أولى هذه الدوافع :
الدافع الأول هو المنافسة الحادة على الموظفين الموهوبين، إذ أصبحت الموهبة من أهم السلع المطلوبة في العالم، ونقصها يسبب مشاكل خطيرة. وستظل المواهب وفقاً لمجلة "هارفارد بيزنيس ريفيو" أهم الموارد وأكثرها ندرة، وهي ما تتنافس الشركات للحصول عليها وتعتمد عليها وتنجح بسببها.
الدافع الثاني للاهتمام بالجندر، هو امتلاك فريق القيادة المناسب والصحيح. ففي بيئة العمل التجاري التي تتسم اليوم بالمفاجآت والحاجة إلى التوقع والتنوع والتعدد، تحتاج إلى فريق قيادة وإدارة متنوع. وقد وجدت دراسة أميركية أن الشركات التي تضم أعلى نسبة من النساء في فريق إدارتها العليا، تفوقت في الأداء بشكل كبير على تلك التي تضم أدنى نسبة.
أما الدافع الثالث، فهو أن النساء يمثلن نصف السوق وأكثر. ومن المؤكد أن التسويق الذي يستهدف النساء، مختلف عن التسويق الموجه للرجال. ولأجل الاستجابة لهذه الشريحة من المستهلكين وفهم توقعاتها وطموحاتها، لابدّ من عمل ابتكاري إبداعي في العلاقات مع الزبائن. تظهر الأبحاث في الولايات المتحدة أن النساء يتخذن نسبة 80% من قرارات شراء السلع الاستهلاكية. وبالطبع، فإن الإدارة النسائية ستكون الأكثر قدرة ونجاحاً في هذا المجال.
يقول "كارلوس غصن"، كبير المديرين التنفيذيين في شركة "رينو ونيسان": إن نيسان لا تستجيب جيداً لحاجات وتوقعات معظم زبائنها. ويضيف في خطبة له أمام خمسمائة من أقوى نساء العالم حضرن مؤتمر "دافوس للمرأة"، الذي عقد في مدينة دوفيل في فرنسا : إن المرأة تمارس تأثيراً فاعلاً في ثلثي عمليات شراء السيارات في اليابان. وأجرت شركة "نيسان" استطلاعات للآراء كشفت أن 80% من الزبونات يفضلن وجود بائعات في صالات العرض. وكذلك كان رأي 50% من الزبائن الذكور. لكن اليوم، مثلما يعترف السيد غصن، تمثل المرأة نسبة لا تزيد على 10% من فرق المبيعات في اليابان، ونسبة 1،9% من مديري الشركات اليابانية المصنعة للسيارات.
يشير "فلاديمير شبيدلا"، المفوض الأوروبي للاستخدام، والشؤون الاجتماعية، إلى أن النساء شغلن ثمانية ملايين وظيفة أتيحت في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2000، وأن النساء يمثلن نسبة 59% من خريجي الجامعات. لكنها لا تزال تواجه عقبات كثيرة تعيق تحقيق إمكانياتها كاملة.
يسجل العالم العربي أدنى مستوى مشاركة في عمل المرأة (33% مقارنة بالمعدل الوسطي العالمي البالغ 56%). المشاركة الكاملة للمرأة وتمكينها بوصفها مواطنة ومنتجة وأماً وأختاً، سيمثلان مصدر قوة بالنسبة إلى البلدان العربية وسينتجان للعالم العربي تحقيق مزيد من الازدهار والرخاء، ومعدلات أعلى من التنمية البشرية، كما يقول "كمال درويش" مدير برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة. هنا لا بدّ من الإِشارة إلى أنه لا يمكن أن ننكر أن قلة من النساء العربيات قد استطعن عن طريق العمل بأجر أن يتحررن اقتصادياً من سيطرة الرجل، الا أن هذا التحرر لم يعرف بعد مدى تأثيره على جوانب الحياة الأخرى الاجتماعية، النفسية والاخلاقية.
وأخشى ما أخشى أن تصيب المرأة العربية ما أصاب المرأة الغربية من إفتقار إلى الأسرة وإلى سندٍ يقف معها في ظل هذه الأزمات الاقتصادية...
|